كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومتى وجد المسلمون حقًا، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها؛ وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق.
{ومما رزقناهم ينفقون}..
وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة. ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيها مبكرًا في حياة الجماعة الإسلامية. بل إنه ولد مع مولدها.
ولا بد للدعوة من الإنفاق. لا بد منه تطهيرًا للقلب من الشح، واستعلاء على حب الملك، وثقة بما عند الله. وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان. ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة. فالدعوة كفاح. ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره. وأحيانًا يكون هذا التكافل كاملًا بحيث لا يبقى لأحد مال متميز.
كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة، ونزولهم على إخوانهم في المدينة. حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة.
وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات..
{والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}.
وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف. فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة. صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم. وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة. لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل؛ وهي عزيزة بالله.
{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان. وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة، أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة.
ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي:
منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة. فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعًا قبليًا مخلخلًا. ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة كما كان السادة يؤذون موإليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ على إيذائهم غالبًا. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد. والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى. واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين. وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه. فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة، ونقضت هذا العهد الجائر.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام. والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب. مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم. ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق.
فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة.
مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}..
ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها}..
فهذا هو الأصل في الجزاء. مقابلة السيئة بالسيئة، كي لا يتبجح الشر ويطغى، حين لا يجد رادعًا يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن!
ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد. وهو استثناء من تلك القاعدة. والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة. فهنا يكون العفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء. فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجئ ضعفا يخجل ويستحيي، ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى. والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو. فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا. ولا كذلك عند الضعف والعجز. وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز. فليس له ثمة وجود. وهو شر يطمع المعتدي ويذلك المعتدى عليه، وينشر في الأرض الفساد!
{إنه لا يحب الظالمين}..
وهذا توكيد للقاعدة الأولى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} من ناحية. وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها. وعدم تجاوز الحد في الاعتداء، من ناحية أخرى.
وتوكيد آخر أكثر تفصيلا:
{ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}..
فالذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي السيئة بالسيئة، ولا يعتدي، ليس عليه من جناح. وهو يزاول حقه المشروع. فما لأحد عليه من سلطان. ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد. إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق. فإن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه؛ وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه. والله يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم. ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له ويأخذوا عليه الطريق.
ثم يعود إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية، وعند المقدرة على الدفع كما هو مفهوم؛ وحين يكون الصبر والسماحة استعلاء لا استخذاء؛ وتجملًا لا ذلًا:
{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}..
ومجموعة النصوص في هذه القضية تصور الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين؛ وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ، ومن الضعف والذل، ومن الجور والبغي. وتعلقها بالله ورضاه في كل حال. وتجعل الصبر زاد الرحلة الأصيل.
ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعًا مميزًا للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون..
وبعد تقرير صفة المؤمنين الذين يدخر الله لهم عنده ما هو خير وأبقى، يعرض في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين، وما ينتظرهم من ذل وخسران:
{ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل}.
إن قضاء الله لا يرد، ومشيئته لا معقب عليها {ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده}.. فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله، أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله.. والذي يعرض منه مشهدًا في بقية الآية:
{وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي}..
والظالمون كانوا طغاة بغاة، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء. إنهم يرون العذاب، فتتهاوى كبرياؤهم. ويتساءلون في انكسار: {هل إلى مرد من سبيل} في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة، والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص! وهم يعرضون على النار {خاشعين} لا من التقوى ولا من الحياء، لكن من الذل والهوان! وهم يعرضون منكسي الأبصار، لا يرفعون أعينهم من الذل والعار: {ينظرون من طرف خفي}.. وهي صورة شاخصة ذليلة.
وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف؛ فهم ينطقون ويقررون: {وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة}.. وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء، والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون: هل إلى مرد من سبيل؟
ويجيء التعليق العام على المشهد بيانًا لمآل هؤلاء المعروضين على النار:
{ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل}..
فقد عدم النصير، وقد أغلق السبيل.
وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين، ليستجيبوا لربهم قبل أن يفجأهم مثل هذا المصير فلا يجدوا لهم ملجأ يقيهم، ولا نصيرًا ينكر مصيرهم الأليم، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التخلي عنهم إذا هم أعرضوا فلم يستجيبوا لهذا النذير؛ فما عليه إلا البلاغ، وما هو مكلف بهم ولا كفيل:
{استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليك إلا البلاغ}.
ثم يكشف عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعارض ويعاند، ويعرض نفسه للأذى والعذاب، وهو لا يحتمل في نفسه الأذى؛ وهو رقيق الاحتمال، يستطار بالنعمة، ويجزع من الشدة، ويتجاوز حده فيكفر من الضيق:
{وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}..
ويعقب على هذا بأن نصيب هذا الإنسان من السراء والضراء ومن العطاء والحرمان كله بيد الله. فما لهذا الإنسان المحب للخير الجزوع من الشر، يبعد عن الله المالك لأمره في جيمع الأحوال:
{لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا إنه عليم قدير}..
والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء والحرمان؛ وهي قريبة من نفس الإنسان؛ والنفس شديدة الحساسية بها. فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق. وقد سبق في السورة حديث عن الرزق بسطه وقبضه. فهذه تكملة في الرزق بالذرية. وهي رزق من عند الله كالمال.
والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم المناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام. وكذلك ذكر: {يخلق ما يشاء}.. فهي توكيد للإيحاء النفسي المطلوب في هذا الموضع. ورد الإنسان، المحب للخير، إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسرّ وما يسوء ومن عطاء أو حرمان.
ثم يفصل حالات العطاء والحرمان: فهو يهب لمن يشا إناثا (وهم كانوا يكرهون الإناث) ويهب لمن يشاء الذكور. ويهب لمن يشاء أزواجًا من هؤلاء وهؤلاء. ويحرم من يشاء فيجعله عقيمًا (والعقم يكرهه كل الناس).. وكل هذه الأحوال خاضعة لمشية الله. لا يتدخل فيها أحد سواه. وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته: {إنه عليم قدير}..
وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة التي تدور عليها السورة. حقيقة الوحي والرسالة. يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده، وفي أية صورة يكون. ويؤكد أنه قد وقع فعلًا إلى الرسول الأخير صلى الله عليه وسلم لغاية يريدها الله سبحانه. ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم:
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}..
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث: {وحيا} يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله، {أو من وراء حجاب}.
كما كلم الله موسى عليه السلام وحين طلب الرؤية لم يجب إليها، ولم يطق تجلي الله على الجبل {وخر موسى صعقًا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} {أو يرسل رسولًا} وهو الملك {فيوحي بإذنه ما يشاء} بالطرق التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأولى: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال: صلى الله عليه وسلم «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب». والثانية أنه كان صلى الله عليه وسلم يتمثل له الملك رجلًا، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول. والثالثة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها. والرابعة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
هذه صور الوحي وطرق الاتصال..
{إنه علي حكيم}.. يوحي من علو، ويوحي بحكمة إلى من يختار.. وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي.. كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان، المحيطة بكل شيء، والتي ليس كمثلها شيء. كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان، محدودة بحدود المخلوقات، من أبناء الفناء؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟